الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
السفر في كتاب الله وسنة رسوله في القصر والفطر مطلق. ثم قد تنازع الناس في جنس السفر وقدره. أما جنسه فاختلفوا في نوعين: أحدهما: حكمه. فمنهم من قال: لا يقصر إلا في حج أو عمرة أو غزو. وهذا قول داود وأصحابه إلا ابن حزم، قال ابن حزم: وهو قول جماعة من السلف، كما روينا من طريق ابن أبي عدي: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن الأسود، عن ابن مسعود قال: لا يقصر الصلاة إلا حاج أو مجاهد. وعن طاوس أنه كان يسأل عن قصر الصلاة فيقول: إذا خرجنا حجاجًا أو عمارًا، صلىنا ركعتين./ وعن إبراهيم التيمي أنه كان لا يري القصر إلا في حج أو عمرة أو جهاد. وحجة هؤلاء أنه ليس معنا نص يوجب عموم القصر للمسافر. فإن القرآن ليس فيه إلا قصر المسافر إذا خاف أن يفتنه الذين كفروا وهذا سفر الجهاد. وأما السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قصر في حجه وعمره وغزواته، فثبت جواز هذا، والأصل في الصلاة الإتمام، فلا تسقط إلا حيث أسقطتها السنة. ومنهم من قال: لا يقصر إلا في سفر يكون طاعة، فلا يقصر في مباح، كسفر التجارة. وهذا يذكر رواية عن أحمد، والجمهور يجوزون القصر في السفر الذي يجوز فيه الفطر، وهو الصواب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة) رواه عنه أنس بن مالك الكعبي، وقد رواه أحمد وغيره بإسناد جيد. وأيضا، فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن يعلى بن أمية أنه قال لعمر بن الخطاب: وأيضًا، فقد ثبت عن عمر بن الخطاب أنه قال: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم، وقد خاب من افترى. كما قال: صلاة الجمعة ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان. ولهذا نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سن للمسلمين الصلاة في جنس السفر ركعتين، كما سن الجمعة والعيدين، ولم يخص ذلك بسفر نسك أو جهاد. وأيضًا، فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة أنها قالت:فرضت الصلاة ركعتين، فزيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر. وهذا يبين أن المسافر لم يؤمر بأربع قط. وحينئذ، فما أوجب الله على المسافر أن يصلى أربعًا، وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله لفظ يدل على أن المسافر فرض عليه أربع. وحينئذ، فمن أوجب على مسافر أربعًا، فقد أوجب ما لم يوجبه الله ورسوله. /فـإن قيل: قوله: [وضع] يقتضي أنـه كان واجبًا قبـل هـذا، كما قـال: إنـه وضع عنـه الصوم. ومعلوم أنه لم يجب على المسافر صوم رمضان قط، لكن لما انعقد سبب الوجوب فأخرج المسافر من ذلك سمي وضعًا، ولأنه كان واجبًا في المقام، فلما سافر وضع بالسفر كما يقال: من أسلم وضعت عنه الجزية، مع أنها لا تجب على مسلم بحال. وأيضًا، فقد قال صفوان بن مُحْرِز: قلت لابن عمر: حدثني عن صلاة السفر. قال: أتخشي أن يكذب على؟ قلت: لا. قـال: ركعتان، مـن خالف السـنة كفر، وهـذا معروف رواه أبو التَّياح عن مُوَرِّق العجلي عنه، وهو مشهور في كـتب الآثـار. وفـي لفـظ: صلاة السفر ركعتان ومن خالف السنة كفر. وبعضهم رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فبين أن صلاة السفر ركعتان وأن ذلك من السنة التي من خالفها فاعتقد خلافها فقد كفر. وهذه الأدلة دليل على أن من قال: إنه لا يقصر إلا في سفر واجب، فقوله ضعيف. ومنهم من قال:لا يقصر في السفر المكروه ولا المحرم، ويقصر في المباح. وهذا ـ أيضًا ـ رواية عن أحمد. وهل يقصر في سفر النزهة؟ فيه عن أحمد روايتان: وأما السفر المحرم: فمذهب الثلاثة مالك والشافعي وأحمد: لا يقصر فيه، وأما أبوحنيفة وطوائف من السلف والخلف فقالوا: يقصر في / جنس الأسفار،وهو قول ابن حزم وغيره. وأبو حنيفة وابن حزم وغيرهما يوجبون القصر في كل سفر، وإن كان محرمًا، كما يوجب الجميع التيمم إذا عدم الماء في السفر المحرم، وابن عقيل رجح في بعض المواضع القصر والفطر في السفر المحرم. والحجة مع من جعل القصر والفطر مشروعًا في جنس السفر، ولم يخص سفرًا من سفر. وهذا القول هو الصحيح. فإن الكتاب والسنة قد أطلقا السفر. قال تعالى: وقد علق الله ورسوله أحكامًا بالسفر كقوله تعالى في التيمم: وهكذا في تقسيم السفر إلى طويل وقصير، وتقسيم الطلاق ـ بعد الدخول ـ إلى بائن ورجعي، وتقسيم الأيمان إلى يمين مكفرة وغير مكفرة. وأمثال ذلك مما علق الله ورسوله الحكم فيه بالجنس المشترك العام فجعله بعض الناس نوعين: نوعًا يتعلق به ذلك الحكم، ونوعًا لا يتعلق. من غير دلالة على ذلك من كتاب ولا سنة: لا نصًا، ولا استنباطًا. والذين قالوا: لا يثبت ذلك في السفر المحرم عمدتهم قوله تعالى في الميتة: وهذه حجج ضعيفة. أما الآية فأكثر المفسرين قالوا: المراد بالباغي الذي يبغي المحرم من الطعام مع قدرته على الحلال، والعادي الذي يتعدي القدر الذي يحتاج إليه. وهذا التفسير هو الصواب دون الأول؛ لأن الله أنزل هذا في السور المكية: الأنعام، والنحل، وفي المدنية؛ ليبين ما يحل وما يحرم من الأكل، والضرورة لا تختص بسفر، ولو كانت في سفر، فليس السفر المحرم مختصًا بقطع الطريق والخروج على الإمام، ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إمام يخْرَج عليه، ولا من شرط الخارج أن يكون مسافرًا، والبغاة الذين أمر الله بقتالهم في القرآن لا يشترط فيهم أن يكونوا مسافرين، ولا كان الذين نزلت الآية فيهم أولا مسافرين، بل كانوا من أهل العوالي مقيمين واقتتلوا بالنعال والجريد، فكيف يجوز أن تفسر الآية بما لا يختص بالسفر، وليس فيها كل سفر محرم ؟ فالمذكور في الآية لو كان كما قيـل، لم يكن مطابقًا للسفر المحرم، فإنه قد يكون بلا سفر، وقد يكون السفر المحرم بدونه. وأيضًا، فقوله: {غَيْرَ بَاغٍ}، حال من {اضْطُرَّ}. فيجب أن يكون /حال اضطراره وأكله الذي يأكل فـيه غير باغ ولا عاد، فإنه قال: وأما قولهم: إن هذا إعانة على المعصية، فغلط؛ لأن المسافر مأمور / بأن يصلى ركعتين، كما هو مأمور أن يصلى بالتيمم. وإذا عدم الماء في السفر المحرم، كان عليه أن يتيمم ويصلى، وما زاد على الركعتين ليست طاعة ولا مأمورًا بها أحد من المسافرين. وإذا فعلها المسافر، كان قد فعل منهيا عنه، فصار صلاة الركعتين مثل أن يصلى المسافر الجمعة خلف مستوطن. فهل يصليها إلا ركعتين؟ وإن كان عاصيا بسفره، وإن كان إذا صلى وحده، صلى أربعًا. وكذلك صومه في السفر ليس برًا ولا مأمورًا به، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قال: (ليس من البر الصيام في السفر). وصومه إذا كان مقيمًا أحب إلى الله من صيامه في سفر محرم، ولو أراد أن يتطوع على الراحلة في السفر المحرم لم يمنع من ذلك. وإذا اشتبهت عليه القبلة: أما كان يتحري ويصلى؟ ولو أخذت ثيابه: أما كان يصلى عريانًا؟ فإن قيل: هذا لا يمكنه إلا هذا قيل: والمسافر لم يؤمر إلا بركعتين، والمشروع في حقه ألا يصوم، وقد اختلف الناس لو صام هل يسقط الفرض عنه؟ واتفقوا على أنه إذا صام بعد رمضان أجزأه، وهذه المسألة ليس فيها احتىاط، فإن طائفة يقولون: من صلى أربعًا أو صام رمضان في السفر المحرم، لم يجزئه ذلك، كما لو فعل ذلك في السفر المباح عندهم. وطائفة يقولون: لا يجزيه إلا صلاة أربع وصوم رمضان. وكذلك / أكل الميتة واجب على المضطر سواء كان في السفر أو الحضر، وسواء كانت ضرورته بسبب مباح أو محرم، فلو ألقي ماله في البحر واضطر إلى أكل الميتة، كان عليه أن يأكلها. ولو سافر سفرًا محرمًا فأتعبه حتى عجز عن القيام، صلى قاعدًا. ولو قاتل قتالا محرمًا حتى أعجزته الجراح عن القيام، صلى قاعدًا. فإن قيل: فلو قاتل قتالا محرمًا: هل يصلى صلاة الخوف؟ قيل: يجب عليه أن يصلى ولا يقاتل، فإن كان لا يدع القتال المحرم فلا نبيح له ترك الصلاة، بل إذا صلى صلاة خائف كان خيرا من ترك الصلاة بالكلية، ثم هل يعيد؟ هذا فيه نزاع، ثم إن أمكن فعلها بدون هذه الأفعال المبطلة في الوقت وجب ذلك عليه، لأنه مأمور بها، وأما إن خرج الوقت ولم يفعل ذلك، ففي صحتها وقبولها بعد ذلك نزاع. النوع الثاني: من موارد النزاع: أن عثمان كان لا يري مسافرًا إلا من حمل الزاد والمزاد دون مـن كـان نازلاً فكان لا يحتاج فيه إلى ذلك، كالتاجر والتاني والجابي الذين يكونون في موضع لا يحتاجون فيه إلى ذلك، ولم يقدر عثمان للسفر قدرًا، بل هذا الجنس عنده ليس بمسافر، وكذلك قيل: إنه لم ير نفسه والذين معه مسافرين بمنى لما صارت مني معمـورة، وذكر ابن أبي شيبة عن ابن سيرين أنه قال: كانوا يقولون: السفر الذي تقصر فيه الصـلاة الذي يحمـل فيـه الزاد والمـزاد. ومأخذ هذا القول ـ والله أعلم ـ أن القصر إنما /كـان في السفر، لا في المقام. والرجل إذا كان مقيمًا في مكان يجد فيه الطعام والشراب، لم يكـن مسافرًا، بل مقيمًا، بخلاف المسافر الذي يحتاج أن يحمل الطعام والشراب. فإن هـذا يلحقه مـن المشقة مـا يلحق المسافر مـن مشقة السفـر. وصاحب هـذا القـول كـأنه رأي الرخصـة إنما تكـون للمشقـة والمشقـة إنما تكـون لمن يحتاج إلى حمل الطعام والشراب. وقد نقل عن غيره كلام يفرق فيه بين جنس وجنس. روى ابن أبي شيبة عن على بن مُسْهِر. عن أبي إسحاق الشيباني، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن عبد الله ابن مسعود، قال: لا يغرنكم سوادكم هذا من صلاتكم، فإنه من مصركم. فقوله: من [مصركم]، يدل على أنه جعل السواد بمنزلة المصر لما كان تابعًا له. وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، قال: كنت مع حذيفة بالمدائن، فاستأذنته أن آتي أهلي بالكوفة فأذن لي. وشرط على ألا أفطر، ولا أصلى ركعتين حتى أرجع إليه، وبينهما نيف وستون ميلاً. وعن حذيفة: ألا يقصر إلى السواد. وبين الكوفة والسواد تسعون ميلاً. وعن معاذ بن جبل وعقبة بن عامر: لا يطأ أحدكم بماشية أحداب الجبال أو بطون الأودية وتزعمون أنكم سفر! لا ولا كرامة. إنما التقصير في السفر من الباءات من الأفق إلى الأفق. /قلت: هؤلاء لم يذكروا مسافة محدودة للقصر لا بالزمان، ولا بالمكان، لكن جعلوا هذا الجنس من السير ليس سفرًا، كما جعل عثمان السفر ما كان فيه حمل زاد ومزاد. فإن كانوا قصدوا ما قصده عثمان من أن هذا لا يزال يسير في مكان يحمل فيه الزاد والمزاد فهو كالمقيم، فقد وافقوا عثمان. لكن ابن مسعود خالف عثمان في إتمامه بمنى. وإن كان قصدهم أن أعمال البلد تبع له كالسواد مع الكوفة. وإنما المسافر من خرج من عمل إلى عمل؛ كما في حديث معاذ: من أفق إلى أفق. فهذا هو الظاهر. ولهذا قال ابن مسعود عن السواد: فإنه من مصركم. وهذا كما أن ما حول المصر من البساتين والمزارع تابعة له، فهم يجعلون ذلك كذلك وإن طال، ولا يحدون فيه مسافة. وهذا كما أن [المخاليف] وهي الأمكنة التي يستخلف فيها من هو خليفة عن الأمير العام بالمصر الكبير، وفي حديث معاذ: من خرج من مِخْلاف إلى مِخْلاف. يدل على ذلك ما رواه محمد بن بشار: حدثنا أبو عامر العَقَدي، حدثنا شعبة، سمعت قيس بن عمران بن عمير يحدث عن أبيه، عن جده: أنه خرج مع عبد الله بن مسعود ـ وهو رديفه على بغلة له ـ مسيرة أربعة فراسخ فصلى الظهر ركعتين. قال شعبة: أخبرني بهذا قيس بن عمران ـ وأبوه عمران بن عمير شاهد ـ وعمير مولي ابن مسعود./ هذا يدل على أن ابن مسعود لم يحد السفر بمسافة طويلة، ولكن اعتبر أمرًا آخر كالأعمال، وهذا أمر لا يحد بمسافة ولا زمان، لكن بعموم الولايات وخصوصها. مثل من كان بدمشق فإذا سافر إلى ما هو خارج عن أعمالها، كان مسافرًا. وأصحاب هذه الأقوال كأنهم رأوا ما رخص فيه للمسافر إنما رخص فيه للمشقة التي تلحقه في السفر، واحتىاجه إلى الرخصة، وعلموا أن المتنقل في المصر الواحد من مكان إلى مكان، ليس بمسافر، وكذلك الخارج إلى ما حول المصر، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إلى قباء كل سبت راكبًا وماشيا، ولم يكن يقصر، وكذلك المسلمون كانوا ينتابون الجمعة من العوالي ولم يكونوا يقصرون. فكان المتنقل في العمل الواحد بهذه المثابة عندهم. وهؤلاء يحتج عليهم بقصر أهل مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة ومزدلفة ومنى، مع أن هذه تابعة لمكة ومضافة إليها، وهي أكثر تبعًا لها من السواد للكوفة، وأقرب إليها منها. فإن بين باب بني شيبة وموقف الإمام بعرفة عند الصخْرات التي في أسفل جبل الرحمة، بريد بهذه المسافة وهذا السير، وهم مسافرون. وإذا قيل: المكان الذي يسافرون إليه ليس بموضع مقام. قيل: بل كان هناك قرية نَمِرة والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينزل بها، وكان بها أسواق. وقريب منها عُرَنَة التي تصل واديها بعرفة. ولأنه لا فرق بين السفر / إلى بلد يقام فيه وبلد لا يقام فيه إذا لم يقصد الإقامة. فإن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين سافروا إلى مكة وهي بلد يمكن الإقامة فيه وما زالوا مسافرين في غزوهم وحجهم وعمرتهم. وقد قصر النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في جوف مكة عام الفتح، وقال: (يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر). وكذلك عمر بعده فعل ذلك. رواه مالك بإسناد صحيح. ولم يفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر بمنى ، ومن نقل ذلك عنهم فقد غلط. وهذا بخـلاف خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى قباء كل سبت راكبًا وماشيا، وخروجـه إلى الصـلاة على الشهداء، فإنه قبل أن يموت بقليل صلى عليهم، وبخلاف ذهابه إلى البقيع، وبخلاف قصد أهل العوالي المدينة ليجمعوا بها، فإن هذا كله ليس بسفر. فإن اسم المدينة متناول لهذا كله، وإنما الناس قسمان: الأعراب، وأهل المدينة. ولأن الواحد منهم يذهب ويرجع إلى أهله في يومه من غير أن يتأهب لذلك أهبة السفر، فلا يحمل زادًا ولا مزادًا لا في طريقه ولا في المنزل الذي يصل إليه. ولهذا لا يسمى من ذهب إلى رَبَض مدينته مسافرًا، ولهذا تجب الجمعة على من حول المصر عند أكثر العلماء وهو يقدر بسماع النداء، وبفرسخ، ولو كان ذلك سفرًا، لم تجب الجمعة على من ينشئ لها سفرًا؛ فإن الجمعة لا تجب على مسافر، فيكف يجب أن يسافر لها. /وعلى هذا، فالمسافر لم يكن مسافرا لقطعه مسافة محدودة ولا لقطعه أيامًا محدودة، بل كان مسافرًا لجنس العمل الذي هو سفر، وقد يكون مسافرًا من مسافة قريبة ولا يكون مسافرًا من أبعد منها، مثل أن يركب فرسًا سابقًا ويسير مسافة بريد ثم يرجع من ساعته إلى بلده، فهذا ليس مسافرًا. وإن قطع هذه المسافة في يوم وليلة، ويحتاج في ذلك إلى حمل زاد ومزاد، كان مسافرًا، كما كان سفر أهل مكة إلى عرفة. ولو ركب رجل فرسًا سابقًا إلى عرفة ثم رجع من يومه إلى مكة، لم يكن مسافرًا. يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (يمسح المسافر ثلاثة أيام وليإليهن، والمقيم يومًا وليلة). فلو قطع بريدًا في ثلاثة أيام، كان مسافرًا ثلاثة أيام وليإليهن، فيجب أن يمسح مسح سفر، ولو قطع البريد في نصف يوم لم يكن مسافرًا، فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما اعتبر أن يسافر ثلاثة أيام سواء كان سفره حثيثا أو بطيئًا، سواء كانت الأيام طوالاً أو قصارًا، ومن قدره بثلاثة أيام أو يومين جعلوا ذلك بسير الإبل والأقدام، وجعلوا المسافة الواحدة حدًا يشترك فيه جميع الناس، حتى لو قطعها في يوم، جعلوه مسافرًا، ولو قطع ما دونها في عشرة أيام، لم يجعلوه مسافرًا، وهذا مخالف لكلام النبي صلى الله عليه وسلم. /وأيضًا، فالنبي صلى الله عليه وسلم في ذهابـه إلى قباء والعـوالي واحد. ومجيء أصحابـه مـن تلك المواضع إلى المدينة إنما كانوا يسيرون في عمران بين الأبنية والحوائط التي هي النخيل، وتلك مواضع الإقامة لا مواضع السفر، والمسافر لابد أن يسفر أي يخرج إلى الصحراء. فإن لفظ: [السفر] يدل على ذلك. يقال: سَفَرَت المرأة عن وجهها إذا كشفته. فإذا لم يبرز إلى الصحراء التي ينكشف فيها من بين المساكن، لا يكون مسافرًا، قال تعالى: فجميع من كان ساكنًا في مدر، كان من أهل المدينة، ولم يكن للمدينة سور يتميز به داخلها من خارجها، بل كانت محال، محال. وتسمي المحلة دارًا، والمحلة: القرية الصغيرة فيها المساكن وحولها النخل والمقابر، ليست أبنية متصلة. فبنو مالك بن النجار في قريتهم حوالي دورهم: أموالهم ونخيلهم، وبنو عدي بن النجار دارهم كذلك. وبنو مازن بن النجار كذلك. وبنو سالم كذلك. وبنو ساعدة كذلك. وبنو الحارث بن الخزرج كذلك. وبنو عمرو بن عوف كذلك. وبنو عبد / الأشهل كذلك، وسائر بطون الأنصار كذلك. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير دور الأنصار دار بني النجار، ثم دار بني عبد الأشهل، ثم دار بني الحارث، ثم دار بني ساعدة. وفي كل دور الأنصار خير).وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نزل في بني مالك بن النجار، وهناك بني مسجده، وكان حائطًا لبعض بني النجار: فيه نخل وخرب وقبور، فأمر بالنخل فقطعت، وبالقبور فنبشت، وبالخرب فسويت، وبني مسجده هناك، وكانت سائر دور الأنصار حول ذلك. قال ابن حزم: ولم يكن هناك مصر. قال: وهذا أمر لا يجهله أحد، بل هو نقل الكوافي عن الكوافي، وذلك كله مدينة واحدة، كما جعل الله الناس نوعين: أهل المدينة، ومن حولهم من الأعراب. فمن ليس من الأعراب فهو من أهل المدينة، لم يجعل للمدينة داخلاً وخارجًا وسورًا ورَبَضًا، كما يقال مثل ذلك في المدائن المسورة، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم حرم المدينة بريدًا في بريد، والمدينة بين لابتين، واللابة: الأرض التي ترابها حجارة سود، وقال: (ما بين لابتيها حرم) ، فما بين لابتيها كله من المدينة وهو حرم، فهذا بريد لا يكون الضارب فيه مسافرًا. وإن كان المكي إذا خرج إلى عرفات مسافرًا، فعرفة ومزدلفة ومنى صحاري خارجة عن مكة، ليست كالعوالي / من المدينة. وهذا ـ أيضًا ـ مما يبين أنه لا اعتبار بمسافة محدودة فإن المسافر في المصر الكبير لو سافر يومين أو ثلاثة لم يكن مسافرًا، والمسافر عن القرية الصغيرة إذا سافر مثل ذلك كان مسافرًا، فعلم أنه لابد أن يقصد بقعة يسافر من مكان إلى مكان فإذا كان ما بين المكانين صحراء لا مساكن فيها يحمل فيها الزاد والمزاد، فهو مسافر، وإن وجد الزاد والمزاد بالمكان الذي يقصده. وكان عثمان جعل حكم المكان الذي يقصده حكم طريقه. فلابد أن يعدم فيه الزاد والمزاد، وخالفه أكثر علماء الصحابة، وقولهم أرجح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قصر بمكة عام فتح مكة وفيها الزاد والمزاد، وإذا كانت منى قرية فيها زاد ومزاد فبينها وبين مكة صحراء يكون مسافرًا من يقطعها، كما كان بين مكة وغيرها، ولكن عثمان قد تأول في قصر النبي صلى الله عليه وسلم بمكة أنه كان خائفًا، لأنه لما فتح مكة فتحها والكفار كثيرون، وكان قد بلغه أن هوازن جمعت له، وعثمان يجوز القصر لمن كان بحضرة عدو، وهذا كما يحكى عن عثمان أنه يعني النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بالمتعة؛ لأنهم كانوا خائفين. وخالفه علي، وعمران بن حصين، وابن عمر، وابن عباس، وغيرهم من الصحابة. وقولهم هو الراجح. فإن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان آمنا لا يخاف إلا الله، وقد أمر أصحابه بفسخ الحج / إلى العمرة، والقصر. وقصر العدد إنما هو معلق بالسفر ولكن إذا اجتمع الخوف والسفر، أبيح قصر العدد وقصر الركعات. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ـ هو وعمر بعده لما صليا بمكة: ـ (يا أهل مكة أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر) ، بين أن الواجب لصلاتهم ركعتين مجرد كونهم سفرًا، فلهذا الحكم تعلق بالسفر ولم يعلقه بالخوف. فعلم أن قصر العدد لا يشترط فيه خوف بحال. وكلام الصحابة أو أكثرهم في هذا الباب، يدل على أنهم لم يجعلوا السفر قطع مسافة محدودة، أو زمان محدود يشترك فيه جميع الناس، بل كانوا يجيبون بحسب حال السائل، فمن رأوه مسافرًا، أثبتوا له حكم السفر، وإلا فلا. ولهذا اختلف كلامهم في مقدار الزمان والمكان. فروى وكيع، عن الثوري، عن منصور ابن المعتمر، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: إذا سافرت يومًا إلى العشاء، فإن زدت فاقصر. ورواه الحجاج بن مِنْهال: ثنا أبو عَوَانة، عن منصور بن المعتمر، عن مجاهد، عن ابن عباس. قال: لا يقصر المسافر في مسيرة يوم إلى العتمة إلا في أكثر من ذلك. وروى وكيع، عن شعبة، عن شبيل، عن أبي جمرة الضُّبَعي، قال: قلت لابن عباس: أقصر إلى الأيلة؟ قال: تذهب وتجيء في يوم؟ قلت: نعم. قال: لا، إلا يوم تام. فهنا قد نهى أن يقصر إذا رجع إلى أهله في يوم ـ وهذه مسيرة بريد ـ وأذن في يوم./ وفي الأول نهاه أن يقصر إلا في أكثر من يوم، وقد روى نحو الأول عن عكرمة مولاه، قال: إذا خرجت من عند أهلك فأقصر. فإذا أتيت أهلك فأتمم. وعن الأوزاعي: لا قصر إلا في يوم تام. وروى وكيع، عن هشام بن ربيعة بن الغاز الجُرَشي، عن عطاء بن أبي رباح، قلت لابن عباس: أقصر إلى عرفة؟ قال: لا، ولكن إلى الطائف وعسفان، فذلك ثمانية وأربعون ميلا. وروى ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، قلت لابن عباس: أقصر إلى منى أو عرفة؟ قال: لا، ولكن إلى الطائف أو جدة أو عسفان، فإذا وردت على ماشية لك أو أهل، فأتم الصلاة. وهذا الأثر قد اعتمده أحمد والشافعي. قال ابن حزم: من عسفان إلى مكة بسير الخلفاء الراشدين اثنان وثلاثون ميلا. قال: وأخبرنا الثقاة: أن من جدَّة إلى مكة أربعين ميلاً. قلت: نهيه عن القصر إلى منى وعرفة قد يكون لمن يقصد ذلك لحاجة ويرجع من يومه إلى مكة حتى يوافق ذلك ما تقدم من الروايات عنه. ويؤيد ذلك أن ابن عباس لا يخفي عليه أن أهل مكة كانوا يقصرون خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر في الحج إذا خرجوا إلى عرفة ومزدلفة ومنى، وابن عباس من أعلم الناس بالسنة، فلا يخفي عليه مثل ذلك، وأصحابه المكيون كانوا يقصرون في الحج / إلى عرفة ومزدلفة، كطاووس وغيره. وابن عيينة نفسه الذي روى هذا الأثر عن ابن عباس، كان يقصر إلى عرفة في الحج. وكان أصحاب ابن عباس كطاووس يقول أحدهم: أتري الناس ـ يعني أهل مكة ـ صلوا في الموسم خلاف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهذه حجة قاطعة. فإنه من المعلوم أن أهل مكة لما حجوا معه كانوا خلقًا كثيرًا، وقد خرجوا معه إلى منى يصلون خلفه، وإنما صلى بمنى أيام منى قصرًا، والناس كلهم يصلون خلفه ـ أهل مكة وسائر المسلمين ـ لم يأمر أحدًا منهم أن يتم صلاته، ولم ينقل ذلك أحد لا بإسناد صحيح ولا ضعيف. ثم أبو بكر وعمر بعده كانا يصليان في الموسم بأهل مكة وغيرهم كذلك ولا يأمران أحدًا بإتمام، مع أنه قد صح عن عمر بن الخطاب أنه لما صلى بمكة قال: يا أهل مكة، أتموا صلاتكم. فإنا قوم سفر، وهذا مروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في أهل مكة عام الفتح لا في حجة الوداع. فإنه في حجة الوداع لم يكن يصلى في مكة، بل كان يصلى بمنزله، وقد رواه أبو داود وغيره، وفي إسناده مقال. والمقصود أن من تدبر صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة ومزدلفة ومنى بأهل مكة وغيرهم، وأنه لم ينقل مسلم قط عنه أنه أمرهم بإتمام، علم قطعًا أنهم كانوا يقصرون خلفه، وهذا من العلم العام الذي لا يخفي على ابن عباس ولا غيره. ولهذه لم يعلم أحد من الصحابة أمر أهل مكة أن / يتموا خلف الإمام إذا صلى ركعتين، فدل هذا على أن ابن عباس إنما أجاب به من سأله إذا سافر إلى منى أو عرفة سفرًا لا ينزل فيه بمنى وعرفة، بل يرجع من يومه، فهذا لا يقصر عنده؛ لأنه قد بين أن من ذهب ورجع من يومه لا يقصر، وإنما يقصر من سافر يومًا، ولم يقل: مسيرة يوم، بل اعتبر أن يكون السفر يومًا، وقد استفاض عنه جواز القصر إلى عسفان. وقد ذكر ابن حزم أنها اثنان وثلاثون ميلا، وغيره يقول: أربعة برد ثمانية وأربعون ميلاً. والذين حدوها ثمانية وأربعين ميلاً، عمدتهم قول ابن عباس وابن عمر، وأكثر الروايات عنهم تخالف ذلك، فلو لم يكن إلا قولهما، لم يجز أن يؤخذ ببعض أقوالهما دون بعض، بل إما أن يجمع بينهما، وإما أن يطلب دليل آخر. فكيف والآثار عن الصحابة أنواع أخر؟! ولهذا كان المحددون بستة عشر فرسخًا من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، إنما لهم طريقان: بعضهم يقول: لم أجد أحدًا قال بأقل من القصر فيما دون هذا ـ فيكون هذا إجماعًا. وهذه طريقة الشافعي. وهذا ـ أيضًا ـ منقول عن الليث بن سعد. فهذان الإمامان بينا عذرهما أنهما لم يعلما من قال بأقل من ذلك ، وغيرهما قد علم من قال بأقل من ذلك. والطريق الثانية: أن يقولوا هذا قول ابن عمر وابن عباس ولا مخالف لهما من الصحابة فصار إجماعًا. وهذا باطل؛ فإنه نقل عنهما / هذا وغيره، وقد ثبت عن غيرهما من الصحابة ما يخالف ذلك. وثم طريقة ثالثة سلكها بعض أصحاب الشافعي وأحمد وهي أن هذا التحديد مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه ابن خزيمة في [مختصر المختصر] عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان). وهذا ما يعلم أهل المعرفة بالحديث أنه كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هو من كلام ابن عباس. أَفَتَرَي رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما حد مسافة القصر لأهل مكة دون أهل المدينة التي هي دار السنة والهجرة والنصرة ودون سائر المسلمين؟ وكيف يقول هذا وقد تواتر عنه أن أهل مكة صلوا خلفه بعرفة ومزدلفة ومنى، ولم يحد النبي صلى الله عليه وسلم قط السفر بمسافة، لا بريد ولا غير بريد ولا حدها بزمان. ومالك قد نقل عنه أربعة بُرُد، كقول الليث والشافعي وأحمد، وهو المشهور عنه. قال: فإن كانت أرض لا أميال فيها، فلا يقصرون في أقل من يوم وليلة للثقل. قال: وهذا أحب ما تقصر فيه الصلاة إلى. وقد ذكر عنه: لا قصر إلا في خمسة وأربعين ميلاً فصاعدًا. وروى عنه: لا قصر إلا في اثنين وأربعين ميلاً فصاعدًا وروى عنه: لا قصر إلا في أربعين ميلاً فصاعدا وروى عنه إسماعيل بن أبي أويس:/ لا قصر إلا في ستة وأربعين ميلاً قصدًا. ذكر هذه الروايات القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتابه [المبسوط] ورأي لأهل مكة خاصة أن يقصروا الصلاة في الحج خاصة إلى منى فما فوقها، وهي أربعة أميال. وروى عنه ابن القاسم أنه قال ـ فيمن خرج ثلاثة أميال كالرعاء وغيرهم فتأول فأفطر في رمضان ـ : لا شيء عليه إلا القضاء فقط، وروى عن الشافعي أنه لا قصر في أقل من ستة وأربعين ميلاً بالهاشمي. والآثار عن ابن عمر أنواع. فروى محمد بن المثني: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان الثوري، سمعت جَبَلَة بن سحيم يقول: سمعت ابن عمر يقول:لو خرجت ميلا لقصرت الصلاة. وروى ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع، حدثنا مِسْعَر، عن مُحَارب بن زياد، سمعت ابن عمر يقول: إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر يعني الصلاة. محارب قاضي الكوفة من خيار التابعين، أحد الأئمة، ومِسْعَر أحد الأئمة. وروى ابن أبي شيبة: حدثنا على بن مُسْهِر، عن أبي إسحاق الشيباني، عن محمد بن زيد بن خليدة، عن ابن عمر قال: تقصر الصلاة في مسيرة ثلاثة أميال. قال ابن حزم: محمد بن زيد هو طائي ولاه محمد بن أبي طالب القضاء بالكوفة، مشهور من كبار التابعين. وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه قصر إلى ذات النصب / قال: وكنت أسافر مع ابن عمر البريد فلا يقصر، قال عبد الرزاق: ذات النصب من المدينة على ثمانية عشر ميلا، فهذا نافع يخبر عنه أنه قصر في ستة فراسخ، وأنه كان يسافر بريدًا وهو أربعة فراسخ فلا يقصر. وكذلك روى عنه ما ذكره غندر: حدثنا شعبة، عن حبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، قال: خرجت مع عبد الله بن عمر بن الخطاب إلى ذات النصب، وهي من المدينة على ثمانية عشر ميلا. فلما أتاها قصر الصلاة، وروى معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان يقصر الصلاة في مسيرة أربعة برد. وما تقدم من الروايات يدل على أنه كان يقصر في هذا وفي ما هو أقل منه، وروى وكيع، عن سعيد بن عبيد الطائي، عن على بن ربيعة الوالبي الأسدي، قال: سألت ابن عمر عن تقصير الصلاة، قال: حاج أو معتمر أو غاز؟ فقلت: لا ولكن أحدنا يكون له الضيعة في السواد. فقال: تعرف السويداء؟ فقلت: سمعت بها ولم أرها. قال: فإنها ثلاث وليلتان وليلة للمسرع: إذا خرجنا إليها قصرنا، قال ابن حزم: من المدينة إلى السويداء اثنان وسبعون ميلا، أربعة وعشرون فرسخًا. قلت: فهذا مع ما تقدم يبين أن ابن عمر لم يذكر ذلك تحديدًا،/ لكن بين بهذا جواز القصر في مثل هذا؛ لأنه كان قد بلغه أن أهل الكوفة لا يقصرون في السواد، فأجابه ابن عمر بجواز القصر. وأما ما روى من طريق ابن جريج: أخبرني نافع: أن ابن عمر كان أدني ما يقصر الصلاة إليه مال له بخيبر، وهي مسيرة ثلاث قواصد، لم يقصر فيما دونه. وكذلك ما رواه حماد بن سلمة عن أيوب بن حميد، كلاهما عن نافع عن ابن عمر: أنه كان يقصر الصلاة فيما بين المدينة وخيبر، وهي بقدر الأهواز من البصرة، لا يقصر فيما دون ذلك. قال ابن حزم: بين المدينة وخيبر كما بين البصرة والأهواز، وهي مائة ميل غير أربعة أميال. قال: وهذا مما اختلف فيه على ابن عمر، ثم على نافع ـ أيضًا ـ عن ابن عمر. قلت: هذا النفي ـ وهو أنه لم يقصر فيما دون ذلك ـ غلط قطعًا، ليس هذا حكاية عن قوله حتى يقال: إنه اختلف اجتهاده، بل نفي لقصره فيما دون ذلك، وقد ثبت عنه بالرواية الصحيحة من طريق نافع وغيره: أنه قصر فيما دون ذلك. فهذا قد يكون غلطًا. فمن روى عن أيوب إن قدر أن نافعًا روى هذا فيكون حين حدث بهذا قد نسي أن ابن عمر قصر فيما دون ذلك، فإنه قد ثبت عن نافع، عنه أنه قصر فيما دون ذلك. /وروى حماد بن زيد:حدثنا أنس بن سيرين،قال: خرجت مع أنس بن مالك إلى أرضه ـ وهي على رأس خمسة فراسخ ـ فصلى بنا العصر في سفينة ـ وهي تجري بنا في دجلة قاعدًا على بساط ـ ركعتين، ثم سلم. ثم صلى بنا ركعتين، ثم سلم. وهذا فيه أنه إنما خرج إلى أرضه المذكورة ولم يكن سفره إلى غيرها حتى يقال: كانت من طريقه فقصر في خمسة فراسخ وهي بريد وربع. وفي صحيح مسلم: حدثنا ابن أبي شيبة وابن بشار، كلاهما عن غندر، عن شعبة، عن يحيي بن يزيد الهنائي: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة؟ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ ـ شعبة شك ـ صلى ركعتين. ولم ير أنس أن يقطع من المسافة الطويلة هذا؛ لأن السائل سأله عن قصر الصلاة، وهو سؤال عما يقصر فيه، ليس سؤالاً عن أول صلاة يقصرها. ثم إنه لم يقل أحد: إن أول صلاة لا يقصرها إلا في ثلاثة أميال أو أكثر من ذلك. فليس في هذا جواب ـ لو كان المراد ذلك ـ ولم يقل ذلك أحد، فدل على أن أنسًا أراد أنه من سافر هذه المسافة قصر، ثم ما أخبر به عن النبي صلى الله عليه وسلم فعل من النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين هل كان ذلك الخروج هو السفر، أو كان ذلك هو الذي قطعه من السفر، فإن / كان أراد به أن ذلك كان سفره فهو نص، وإن كان ذلك الذي قطعه من السفر، فأنس بن مالك استدل بذلك على أنه يقصر إليه إذا كان هو السفر. يقول: إنه لا يقصر إلا في السفر، فلولا أن قطع هذه المسافة سفر لما قصر. وهذا يوافق قول من يقول: لا يقصر حتى يقطع مسافة تكون سفرًا، لا يكفي مجرد قصده المسافة التي هي سفر، وهذا قول ابن حزم وداود وأصحابه، وابن حزم يحد مسافة القصر بميل، لكن داود وأصحابه يقولون: لا يقصر إلا في حج أو عمرة أو غزو، وابن حزم يقول: إنه يقصر في كل سفر، وابن حزم عنده أنه لا يفطر إلا في هذه المسافة وأصحابه يقولون: إنه يفطر في كل سفر، بخلاف القصر، لأن القصر ليس عندهم فيه نص عام عن الشارع، وإنما فيه فعله أنه قصر في السفر، ولم يجدوا أحدًا قصر فيما دون ميل، ووجدوا الميل منقولاً عن ابن عمر. وابن حزم يقول: السفر هو البروز عن محلة الإقامة، لكن قد علم أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البقيع لدفـن المـوتي وخرج إلى الفضاء للغائط والناس معـه فلم يقصروا ولم يفطـروا. فخرج هذا عن أن يكون سفرًا، ولم يجدوا أقل من ميل يسمي سفرًا؛ فإن ابن عمر قال: لو خرجت ميلاً، لقصرت الصلاة. فلما ثبت أن هذه المسافة / جعلها سفرًا ولم نجد أعلى منها يسمي سفرًا، جعلنا هذا هو الحد، قال: وما دون الميل من آخر بيوت قريته له حكم الحضر فلا يقصر فيه ولا يفطر. وإذا بلغ الميل ـ فحينئذ ـ صار له سفر يقصر فيه الصلاة ويفطر فيه، فمن ـ حينئذ ـ يقصر ويفطر، وكذلك إذا رجع، فكان على أقل من ميل فإنه يتم ليس في سفر يقصر فيه. قلت: جعل هؤلاء السفر محدودًا في اللغة. قالوا: وأقل ما سمعنا أنه يسمي سفرًا هو الميل وأولئك جعلوه محدودًا بالشرع، وكلا القولين ضعيف. أما الشارع فلم يحده. وكذلك أهل اللغة لم ينقل أحد عنهم أنهم قالوا: الفرق بين ما يسمي سفرًا وما لا يسمي سفرًا هو مسافة محدودة، بل نفس تحديد السفر بالمسافة باطل في الشرع واللغة، ثم لو كان محدودًا بمسافة ميل، فإن أريد أن الميل يكون من حدود القرية المختصة به، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج أكثر من ميل من محله في الحجاز ولا يقصر ولا يفطر، وإن أراد من المكان المجتمع الذي يشمله اسم مدينة ميلاً، قيل له: فلا حجة لك في خروجه إلى المقابر والغائط؛ لأن تلك لم تكن خارجًا عن آخر حد المدينة. ففي الجملة كان يخرج إلى العوالي وإلى حد كما كان يخرج إلى المقابر والغائط وفي ذلك ما هو أبعد من ميل ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يخرجون من المدينة إلى أكثر من ميل، ويأتون إليها أبعد من ميل ولا يقصرون،/ كخروجهم إلى قباء والعوالي وأحد، ودخولهم للجمعة وغيرها من هذه الأماكن. وكان كثير من مساكن المدينة عن مسجده أبعد من ميل، فإن حرم المدينة بريد في بريد، حتى كان الرجلان من أصحابه لبعد المكان يتناوبان الدخول يدخل هذا يومًا وهذا يومًا، كما كان عمر بن الخطاب وصاحبه الأنصاري يدخل هذا يومًا وهذا يومًا، وقول ابن عمر: لو خرجت ميلاً قصرت الصلاة، هو كقوله: إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر،وهذا إما أن يريد به ما يقطعه من المسافة التي يقصدها فيكون قصده:إني لا أؤخر القصر إلى أن أقطع مسافة طويلة. وهذا قول جماهير العلماء،إلا من يقول: إذا سافر نهارًا لم يقصر إلى الليل. وقد احتج العلماء على هؤلاء بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعًا والعصر بذي الحليفة ركعتين. وقد يحمل حديث أنس على هذا، لكن فعله يدل على المعني الأول، أو يكون مراد ابن عمر: من سَافر قَصَر، ولو كان قصده هذه المسافة إذا كان في صحراء بحيث يكون مسافرًا لا يكون متنقلاً بين المساكن، فإن هذا ليس بمسافر باتفاق الناس، وإذا قدر أن هذا مسافر، فلو قدر أنه مسافر أقل من الميل بعشرة أذرع فهو ـ أيضًا ـ مسافر. فالتحديد بالمسافة / لا أصل له في شرع ولا لغة، ولا عرف ولا عقل، ولا يعرف عموم الناس مساحة الأرض فلا يجعل ما يحتاج إليه عموم المسلمين معلقًا بشيء لا يعرفونه، ولم يمسح أحد الأرض على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا قدر النبي صلى الله عليه وسلم الأرض لا بأميال ولا فراسخ، والرجل قد يخرج من القرية إلى صحراء لحطب يأتي به فيغيب اليومين والثلاثة فيكون مسافرًا، وإن كانت المسافة أقل من ميل، بخلاف من يذهب ويرجع من يومه، فإنه لا يكون في ذلك مسافرًا. فإن الأول يأخذ الزاد والمزاد بخلاف الثاني. فالمسافة القريبة في المدة الطويلة تكون سفرًا، والمسافة البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفرًا. فالسفر يكون بالعمل الذي سمي سفرًا لأجله. والعمل لا يكون إلا في زمان. فإذا طال العمل وزمانه فاحتاج إلى ما يحتاج إليه المسافر من الزاد والمزاد، سمي مسافرًا، وإن لم تكن المسافة بعيدة، وإذا قصر العمل والزمان بحيث لا يحتاج إلى زاد ومزاد، لم يسم سفرًا، وإن بعـدت المسافـة. فالأصل هـو العمل الذي يسمي سفـرًا، ولا يكون العمـل إلا في زمـان، فيعتبر العمل الذي هو سفر. ولا يكون ذلك إلا في مكان يسفر عن الأماكن، وهذا مما يعرفه الناس بعاداتهم، ليس له حد في الشرع ولا اللغة، بل ما سموه سفرًا فهو سفر.
|